مسقط : يظلّ أصل اللغة من أعظم أسرار التاريخ الإنساني، وأحد ألغاز الوجود التي حيّرت العقول منذ فجر التاريخ. فمنذ قرون، انشغل العلماء والفلاسفة واللغويون بسؤال محوري: هل وُجدت في يومٍ ما لغة واحدة أصلية انبثقت منها سائر لغات العالم؟ أم أن اللغات وُلدت وتطورت بشكل مستقل في أرجاء متعددة من الأرض، كل منها نتاج بيئتها وثقافتها؟
ومهما يكن الجواب، فإن المؤكد تقريبًا هو أنه لا توجد لغة "نقية" تمامًا لم تستعر من غيرها كلمة أو تعبيرًا واحدًا. فاللغة ليست كيانًا جامدًا، بل هي كائن حيّ ينمو ويتغيّر، يتأثر ويؤثر، ويعيد تشكيل نفسه باستمرار مع كل جيل وكل تواصل بشري. وكلما تلاقت الشعوب، سواء عبر التجارة، أو الهجرة، أو الفتوحات، أو التحالفات، تبادلت لغاتها المفردات والتعابير وحتى البنى النحوية.
هذا الامتزاج اللغوي ليس أمرًا عرضيًا أو نادرًا، بل هو القاعدة التي تحكم تطور اللغات. فإذا نظرنا إلى تاريخ البشرية، سنجد أن التبادل اللغوي يحدث أينما وُجد تواصل إنساني. حتى اللغات التي تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن بعضها جغرافيًا وثقافيًا، قد تخفي بين كلماتها قواسم مشتركة وأصولًا واحدة.
خذ مثلًا اللغة البلوشية، التي تحمل في طياتها كلمات عربية وفارسية وهندية، نتيجة قرون من التجارة والملاحة والهجرات. أو اللغة السواحيلية، التي تُتحدث على سواحل شرق إفريقيا، وهي مزيج من القواعد الإفريقية والمفردات العربية، حتى إن كلمة "kitabu" تعني "كتاب"، و"safari" تعني "سفر".
أما اللغة الأردية، فهي مثال آخر على التمازج الثقافي، إذ تحتوي على مئات الكلمات من العربية والفارسية والتركية والهندية، مثل "دنيا"، و"إنسان"، و"مدرسة"، وكلها ذات جذور عربية.
وإذا اتجهنا شرقًا، نجد أن اللغة الملايوية في ماليزيا وإندونيسيا تضم كلمات عربية مثل "مسجد" و"سلام" و"كتاب"، وقد دخلت إليها عبر قرون من التواصل التجاري والثقافي مع التجار العرب.
هذه الأمثلة تكشف أن الكلمات ليست مجرد أدوات للتخاطب، بل هي شواهد على مسارات البشر وطرقهم البحرية والبرية، وأسفارهم التي ربطت بين قارات وأمم. فكل كلمة مستعارة تحمل في طياتها أثرًا من تاريخ طويل من التفاعل الحضاري.
علم اللسانيات (Linguistics) يتعامل مع هذه الظواهر بمنهجية علمية، فيدرس أصول الكلمات (Etymology)، وعلم الأصوات (Phonetics)، ودلالات المعاني (Semantics)، وقواعد التراكيب (Syntax)، لكنه رغم أدواته وتحليلاته، لا يلغي سحر اللغة في قلوب المتحدثين بها. فاللغة ليست فقط علمًا، بل هي ذاكرة جمعية وهوية ثقافية وروح أمة.
قال الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي: "اللغة ليست كلمات فقط، إنها شعور وتاريخ وهوية". وهذه العبارة تختصر فلسفة اللغة في أبهى صورها، فكل كلمة نلفظها تحمل ظلّ أجيال سبقتنا، وتربط بين حاضرنا وماضٍ سحيق.
في عصر العولمة، قد يظن البعض أن التشابه بين اللغات سيتراجع أمام هيمنة اللغات العالمية الكبرى كالإنجليزية والإسبانية والصينية، لكن ما يحدث في الواقع مختلف تمامًا. فالتواصل السريع عبر الإنترنت ووسائل الإعلام، وحركة البشر المتزايدة بين الدول، أدّت إلى زيادة تبادل المفردات، وأصبحت اللغات اليوم أكثر تشابكًا من أي وقت مضى.
فعلى سبيل المثال، كلمات إنجليزية مثل "coffee" و"sugar" و"algebra" جاءت من العربية، وكلمات عربية اليوم مثل "إنترنت" و"تلفاز" و"راديو" جاءت من لغات أوروبية. حتى اللغة اليابانية، التي تبدو بعيدة، تحتوي على كلمات مستعارة من الإنجليزية مثل "コンピュータ" (كمبيوتر) و"パン" خبز، من البرتغالية.
هذا التبادل ليس علامة ضعف، بل دليل على حيوية اللغة وقدرتها على التكيّف. فاللغة التي تنغلق على نفسها وتتوقف عن التفاعل مع غيرها، تتجمد مع الزمن وتصبح عرضة للاندثار. أما اللغة التي تستعير وتُعير، فهي تكتسب مرونة وقدرة على مواكبة المستجدات.
والأجمل أن تشابه اللغات لا يقتصر على الكلمات، بل يشمل التعابير والأساليب وحتى المفاهيم الثقافية. فعندما نتحدث عن "القهوة" في العربية و"café" في الفرنسية و"kaffee" في الألمانية و"kahwa" في السواحيلية، فإننا لا نشترك فقط في كلمة، بل في ثقافة كاملة من التلاقي الاجتماعي حول فنجان قهوة.
إن دراسة أوجه التشابه بين اللغات ليست مجرد بحث أكاديمي جامد، بل هي رحلة في عمق التجربة الإنسانية، تكشف كيف ظل الإنسان عبر العصور يتواصل ويتبادل الأفكار والسلع والمشاعر. فاللغة، في النهاية، ليست مجرد أصوات، بل هي جسر ممتد بين العقول والقلوب.
وهكذا، فإن كل كلمة مشتركة بين لغتين أو أكثر، هي شهادة على أننا، رغم اختلاف ألسنتنا، نتحدث جميعًا لغة إنسانية واحدة، أساسها المشاركة والتأثير المتبادل، وجوهرها الفهم المشترك. وربما هذا هو الدرس الأهم الذي تقدمه لنا اللغات: أننا جميعًا أبناء قصة واحدة، مكتوبة بحروف متعددة، لكنها تحكي المعنى نفسه.